Saturday, April 08, 2006

حكم المعازف

اعلم أن القرآن الكريم لم يُهمل حكم المعازف، فقد جاءت بعض الآيات التي تُشير إلى ذم المعازِف، وهي في قوله تعالى: "قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا • وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا •" (الإسراء: 63 - 64) وقد فسّر بعض أهل العلم الصوت المراد في هذه الآية بصوت الغِناء واللعب (وهو أحد التفسيرات التي حكاها ابن جرير الطبري في تفسيره لهذه الآية).

وقال تعالى: "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين" (لقمان: 6). قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير الآية "الغِناء وأشباهِه" (رواه البخاري في الأدب المفرد، 786، باب الغناء واللهو، وسنده صحيح)، (وذكر ابن جرير الطبري أنّ الآية عامة في كل ما يُلهي عن سبيل الله مما نهى الله عن استماعه ورسوله) ولا شك أن المعازف داخِلةٌ تحت هذا.


وأما السنة فقد جاءت وصرّحت بحكم المعازف –وهو التحريم- فقد جاء أكثر من حديث بين الصحيح والحسن يدل صراحة على تحريم المعازف (آلات الطرب) بشتى أشكالها. وفيما يأتي:

عن أبي عامر –أو أبي مالك- الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكوننّ من أمتي أقوامٌ يستحلون الحِر والحرير والخمر والمعازف، ولينزلنّ أقوام إلى جنب عَلَم، يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم –‏يعني الفقير– لحاجة، فيقولون: ارجع إلينا غداً، فيُبَيِّتُهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة". وهذا حديث صحيح، أخرجه البخاري في صحيحه محتجا به (فقد علّقه بصيغة الجزم على شيخه هشام بن عمار، رقمه 5590 في كتاب الاشربة باب: ما جاء فيمن يستحل الخمر ..)


ولقد تتابع أهل العلم على الاحتجاج به وتصحيحه، فمن هؤلاء:

الإمام عثمان بن الصلاح وهو من المحدثين الكبار، قال: والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح (نقله عنه ابن حجر في الفتح 10/55).


الإمام ابن حبان في صحيحه (6754) كتاب التاريخ، باب: إخباره صلى الله عليه وسلم عمّا يكون في أمته من فتن.

الإمام ابن تيمية، قال: فالآلات المُلهِية قد صحّ فيها ما رواه البخاري في صحيحه تعليقا مجزوما به داخلا في شرطه.. (الاستقامة 1/294) مؤسسة قرطبة، ط1.

ابن القيم الجوزية، قال: هذا حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه محتجاً به، وعلّقه تعليقا مجزوما به (إغاثة اللهفان، وقد أُفرد ما قاله في هذا الموضوع في رسالة اسمها (حكم الغناء في الإسلام).

ابن حجر العسقلاني في فتح الباري وأطال في إثبات صحته 9/54.

الصنعاني (صاحب سبل السلام) في كتابه توضيح الأفكار، تحت كلامه على الحديث المعلق.

الشيخ الألباني في رسالته (تحريم آلات الطرب) ص38 وص44.

الشيخ شعيب الأرنؤوط، قال: حديث صحيح، في تحقيقه صحيح ابن حبّان حديث 6754، كتاب: التاريخ.

الشيخ حمدي السِلفي، في تحقيقه المعجم الطبراني الكبير 3/282 حديث 3417.

الشيخ عبد الله الجديع، قال: صحيح أخرجه البخاري... (في رسالته: أحاديث ذم الغناء والمعازف في الميزان ص23) ط دار الأقصى.

الشيخ أحمد النجمي، قال: يكفينا أنّ هذا الحديث في صحيح البخاري... (في رسالته: تنزيه الشريعة عن إباحة الأغاني الخليعة ص26) ط دار
الإفتاء للملكة العربية السعودية.

قال الشيخ الألباني: وأرى أنه من المهم أن أختم الكلام على هذا الحديث الأول بالتذكير بمن صححه من الأئمة الحفاظ على مر ِّ العصور. (فذكر الشيخ اثنا عشر عالما، ومنهم النووي وابن كثير والسخاوي والاسماعيلي). قلت: وبهذا نعرف صحة هذا الحديث فتطمئنُ قلوبنا له، ونعلم الخطأ الذي وقع فيه من ضعّفه.


والآن أذكر دلالة الحديث على تحريم المعازف:

أولا: قوله صلى الله عليه وسلم "يستحِلُّون" ومعناه: أنهم يتخذون هذه الأشياء حلالاً، ويسترسلون فيها استرسال المستحِل، وهذا يدل على أن ما ذُكِر محرم من المحرمات، لأن الاستحلال يدل أن المذكور محرم فاستُحِلّ.

ثانيا: ذِكرُ الحكم على المعازف مع الحكم على الخمر والزنى (الحِر) مما يدل على قبح المعازف وأنها محرمة كما أن الخمر محرم.

ثالثا: ذكر لفظة "المعازف" الدالة على تحريم جميع آلات الطرب.


الحكمة من تحريم المعازِف:

هناك قاعدة مهمة تقول: الشارع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة ولا ينهى إلا عمّا مفسدته خالصة أو راجحة. [القاعدة الأولى من القواعد والأصول الجامعة للسعدي]

وهذه قاعدة مهمة جدا يستفيد منها المسلم في تعامله مع جميع أمور دينه، ولكن اعلم أنّ المصلحة التي شرع الله الحكم من أجلها قد تظهر لك وقد تخفى عنك، وعلى هذا إذا جاء أمر من الله أو من رسوله صلى الله عليه وسلم ولم تصل أنت برأيك إلى الحكمة منه، أو ظننت أنّ في هذا الأمر تفويت مصلحة عنك فعليك أن تتهم رأيك لأنك تعلم أنّ ربك أعلم بمصلحتك منك، وتعلم أنّه دعاك لما يُصلِحُ شأنك، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ" (الأنفال: 24).

وأما الحكمة من تحريم المعازِف فقد توصل إليها بعض فقهاء الصحابة، وهم أعلم بأحوال القلوب وأمراضه، لأنهم أخذوا عِلمهم من طبيب القلوب وهو النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن مسعود رضي الله عنه: "الغِناء يُنبِتُ النِفاق في القلب". رواه البيهقي في سننه 21006، كتاب: الشهادات، باب: الرجل يُغني.. وصححه ابن القيم ص34 في رسالته: (حكم الغناء) المقتبسة من إغاثة اللهفان، وصححه الألباني في: (تحريم آلات الطرب ص145).

واعلم أنّ الغِناء "يُلهي القلب ويصُدُهُ عن فهم القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، فإن القرآن والغِناء لا يجتمعان في القلب أبداً لِما بينهما من تضاد، فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة، ومُجانبة شهوات النفوس، وأسباب الغيِّ، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان، والغِناء يأمر بضد ذلك كله ويُحسِّنه، ويُهيِّج النفوس إلى شهوات الغي، فيُثيرُ كامِنها، ويُزعِجُ قاطِنها..." (قاله ابن القيم ص35).


اعلم إن من سماحة الإسلام أنه إذا حرّم شيئاً جعل مكانه بديلاً مباحاً، ومن سماحته أنه وضع كل شيء في موضعه المناسب. فهو لما حرم المعازف بشتى أنواعها، فهو سبحانه أجاز الضرب بالدُفِ مع الغِناء، وذلك في مناسبات مختلفة، منها:

الأعراس، "قالت الرُّبيِّعُ بنت مُعَوِّذِ بن عفراء: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يدخل حين بُنِيَ عليَّ، فجلسَ على فراشي كمجلسك مني، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندُبن مَن قُتِلَ من آبائي يوم بدر ‏إذ قالت إحداهن: وفينا نبيٌّ يعلم ما في غد، فقال: دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين". (البخاري 5147، كتاب: النكاح، باب: ضرب الدف في النكاح والوليمة).

العيدين: الفطر والأضحى، لحديث عائشة رضى الله عنها قالت: "دخل أبو بكرٍ وعندي جاريتانِ من جواري الأنصار تُغَنِّيان بما تقاوَلَتِ الأنصارُ يومَ بُعاثَ، قالت: وليستا بمغَنِّيَتَينِ، فقال أبو بكر: أَمَزاميرُ الشيطانِ في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر، إنَّ لكل قومٍ عيداً، وهذا عيدنا". (البخاري 952، كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب...).

وقيل الاحتفال بحضور الغائب: لحديث بريدة، يقول: "‏خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جاريةٌ سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنتُ‏ ‏نذرتُ إن رَدَّك الله صالحاً أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنَّى. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كُنتِ نذرتِ ‏فاضربي وإلا فلا. فجعلت تضرب فدخل أبو بكرٍ وهي تضرب، ثم دخل عليٌّ وهي تضرب، ثم دخل عثمانُ وهي تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدف تحت ‏إستِها، ثم قعدت عليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان ليخاف منك يا عمر إني كنت جالساً وهي تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف". (صحيح الترمذي 3690، كتاب المناقب، باب مناقب عمر)


تنبيه: لا تجوز الموسيقى سواءٌ في الأعراس أو في الأعياد... وإنما الجائز ما ذُكِر من دُفٍ وغِناءٍ.